بقلم الاستاذ عبد الرحيم الراجي باحث بسلك الماستر بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط.
إذا كانت مباحث علم الكلام تدخل ضمن الاهتمام والانشغال بالتراث وتجديده والدفاع عنه من خلال الانفتاح على الآخر و مجادلته بالعقل والنقل، فإن أبا الحسن الأشعري والقاضي عبد الجبار المعتزلي من أبرز مؤسسي علم الكلام اللذان انشغلا بتجديد الفكر الديني من خلال المراهنة على التأويل الإيديولوجي للنص الديني بالاستناد إلى العقل والنقل لإبراز رؤيتهما الفلسفية للعالم. وإذا سلمنا مع الفيلسوف الألماني فردريك هيجل بالفكرة القائلة: “كل ما هو عقلي فهو واقعي وكل ما هو واقعي فهو عقلي”، فلا شك أن ما أتى به رواد الفكر المعتزلي والأشعري من نظرة فلسفية أي من رؤية إيديولوجية للقضايا الدينية والواقعية تنسجم مع الأحداث والوقائع السياسية التي عرفها المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبروز الصراع على الحكم والسلطة بين المسلمين حيث “انقسموا إلى ثلاث فرق كل فريق يرى بأنه أولى بالإمامة، فقد رأى الأنصار أنهم أحق الناس بالخلافة لأنهم أول من آوى الرسول صلى الله عليه وسلم ونصره، ورأى المهاجرون أنهم أحق الناس بالخلافة لأنهم أول الناس إسلاما، وكانوا قرشيين في معظمهم، ورأى بنو هاشم أنهم أقرب القرشيين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أحق بالخلافة”. وفي باب الحديث عن الإمامة وكيفية الحصول عليها ذكر الشهرستاني “بأنها تثبت بأحد الوجهين: الوجه الأول، القول بأنها تثبت بالاتفاق والاختيار أما الوجه الثاني فيتلخص في القول بأنها تثبت بالنص والتعيين”
وإذا كانت الأحداث السياسية التي عرفتها البيئة الإسلامية والفتوحات التي قادها المسلمون قبل وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قد مكنتهم من الدخول إلى العديد من البلدان مثل بلاد الروم والفرس والسيطرة على الشام ومصر والعراق، فقد وجد الأشاعرة وعلى رأسهم أبي الحسن الأشعري والمعتزلة بقيادة القاضي عبد الجبار بأنهم معنيين بضرورة الاهتمام بالتأويل الأيديولوجي للنص الديني و تجديد الفكر الديني ومحاولة إبراز رؤيتهم الفلسفية والدفاع عنها من خلال مواجهة خصومهم من الفرق الكلامية الإسلامية و أصحاب الديانات الشرقية القديمة الذين ضلوا يخفون تمسكهم بخصوصياتهم الثقافية والدينية بعد الفتح الإسلامي لبلدانهم مثل: الصابئة والبراهمة والمجوس والمانوية، وأصحاب الديانات السماوية السابقة على الإسلام كاليهودية والمسيحية . إذن لننتقل إلى بيان الرؤية الفلسفية أو الإيديولوجية بتعبير عبد الله العروي التي اهتمّ بها كل من أبي الحسن الأشعري و القاضي عبد الجبار في إطار تجديد التراث والدفاع عنه من الزاوية الدينية. إذن لننتقل إلى رصد رؤيتهما الفلسفية من خلال العودة إلى مشروعهما الفكري.
1- أبو الحسن الأشعري(260هـ – 324هـ) ورؤيته الفلسفية إلى الكون والإنسان
أ- الأشاعرة: سؤال النشأة ودور أبو الحسن الأشعري فيها
إذا كان الصراع السياسي والعقائدي قد ساهم بشكل كبير في ظهور معظم الفرق الكلامية والمذاهب الدينية في التاريخ الإسلامي مثل فرقة الخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة، فإن نشأة فرقة الأشاعرة لا تخرج عن هذا السياق العام، فهي بدورها فرقة كلامية نشأت نتيجة أسباب عقائدية و سياسية، لأن الاختلاف الذي وقع بين المسلمين في أمر الخلافة، هو السبب الذي أدى إلى انقسامهم إلى فرق متعددة، إذن الصراعات السياسية على الإمامة (السلطة) التي حدثت في عهد الخليفة عثمان بن عفان والتي انتهت باستشهاده والصراعات التي وقعت كذلك في عهد على بن أبي طالب وجسدتها حروب الجمل وصفين والنهروان هي التي أفرزت مختلف الفرق الكلامية وعلى رأسهم فرقة الأشاعرة ، وقد كانت كل فرقة تسعى إلى تأويل النص الديني تأويلا إيديولوجيا لبلورة أفكارها ورؤيتها الفلسفية إلى الله والإنسان والحياة المدنية. بالإضافة إلى التزامها بالدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد الخصوم من أهل الديانات الشرقية القديمة والديانات السماوية السابقة على الدين الإسلامي مثل اليهودية والمسيحية. وإذا كانت فرقة المعتزلة قد اعتمدت على المنهج العقلي في قراءة وتأويل النص الديني فإن فرقة الأشاعرة قد اعتمدت في قراءتها على مبدأ التوفيق بين المنهج العقلاني الذي أخذه أبو الحسن الأشعري عن المعتزلة والفكر السني الذي أخذه عن أهل السنة والجماعة.
وفي سياق مواصلة النبش في سؤال نشأة فرقة الأشاعرة والبحث عن دور أبو الحسن الأشعري في ذلك ، نؤكد بأن ظهور هذه الفرقة الكلامية كان على يد أبي الحسن الأشعري الذي يعد من أحد أعلام أهل السنة والجماعة، ويعود نسب هذا الرجل إلى الصحابي أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، وقد كان أبو الحسن الأشعري من كبار المجتهدين المجددين في مجال الفكر الديني ويتجلى ذلك في الحرص الذي أبداه على مستوى تأسيس “علم الكلام” والدفاع عنه حيث أفرد لهذه القضية كتابا بعنوان “رسالة استحسان الخوض في علم الكلام” ضمنه ردا واضحا على “الحملة التي قادها الحنابلة وعلى رأسهم أحمد بن حنبل(ت 241هـ) على المتكلمين من خلال ذم علم الكلام والنهي على الخوض فيه”.
تلقى أبو الحسن الأشعري (260هـ – 324هـ) تكوينه على يد شيخ المعتزلة أبو علي الجبائي، وتخلى فيما بعد عن مذهب الاعتزال وعن الأفكار التي كانت تقول بها فرقة المعتزلة مثل قضية خلق القران وقضية المنزلة بين المنزلتين، وتبنى المذهب الأشعري. و قد كان لهذا التحول أسباب ذاتية وأخرى سياسية وعقائدية، وسنعود للحديث عنها لحظة الانتقال إلى المقارنة بين رؤيته الفكرية ورؤية القاضي عبد الجبار.
بالإضافة إلى ما تقدم، أبو الحسن الأشعري كان فقيها ومتكلما ، حرص على نشر الفكر الأشعري بالاعتماد على المنهج الوسطي المعتدل الذي يراعي الاعتراف بأهمية النقل والعقل في فهم النص وتأويله ، وقد أثمر اجتهاده في مجال علم الكلام بإنتاج مجموعة من الأعمال التي تعبر عن عمق رؤيته الفلسفية الرامية إلى تجديد الفكر الديني وبيان رؤيته للإنسان والكون ويتجلى ذلك في الكتب الآتية: “مقالات الإسلاميين”، و “رسالة استحسان الخوض في علم الكلام”، و”اللمع” …إلخ. إذن لننتقل إلى تقديم رؤيته الفلسفية التي تبين سبب انشغاله بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني، من المنظور الذي يتلاءم مع المذهب الأشعري الذي يراعي الوسطية والاعتدال.
ب- أبو الحسن الأشعري ورؤيته الفلسفية إلى الله و الإنسان و الحياة المدنية (الحياة السياسية)
لمّا كنا بصدد معالجة سؤال ما مفهوم الإيديولوجيا؟ أخبرنا كارل ماركس وفردريك نتشه بأنها وعي زائف وأوهام ليس إلا، في المقابل أثبت عبد الله العروي “بأنها نظرة أو رؤية فلسفية إلى الكون والإنسان و بأنها منهج أو طريقة في التفكير”، وسانده في هذا الطرح المفكر اللبناني نديم البيطار مبرزا بأن “الإيديولوجيا هي أية فلسفة حياة تفسر علاقة الإنسان بالمجتمع والتاريخ”. وإذا كانت الإيديولوجيا تفيد أحيانا الرؤية والمنهج فلماذا انشغل أبو الحسن الأشعري بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني؟ هل يتوخى الرجل تزييف الواقع وتسويق الأوهام أم يهدف إلى بلورة رؤيته الفلسفية إلى الكون والإنسان و تجديد الفكر الديني الإسلامي والدفاع عنه ضد الخصوم وبلورة تصوره لكيفية التداول على الإمامة (السلطة) لتفادي الفتنة والصراع في المجتمع الإسلامي؟.
إذن الاهتمام بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني بالنسبة لأبي الحسن الأشعري يدخل ضمن بلورة رؤيته الفلسفية إلى الكون والإنسان. ويعود هذا، إلى وجود أسباب أو عوامل ذاتية و أخرى موضوعية:
1- الأسباب الذاتية: إذا ما تأملنا كتابات أبو الحسن الأشعري، سنجد بأن العوامل الذاتية التي قادت الرجل إلى الاهتمام أو الانشغال بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني ، تتلخص في عوامل معرفية ومنهجية وفي الرغبة الذاتية في تجديد الفكر الديني من خلال الحث على استحسان الخوض في علم الكلام باعتباره علما يعنى بالتأويل والبحث في فهم الإيمان وإدراك مضمون العقيدة وتحديد المعاني التي وردت في الكتاب والسنة مثل: التوحيد والعدل الإلهي والوعد والوعيد إلخ
– العامل الأول ويرتبط بتجديد الفكر الديني والدفاع عنه ضد خصوم التجديد: قال أبو الحسن الأشعري في كتابه” رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام” :” إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس ما لهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف والتقليد وطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون… وصفات الباري بدعة وضلالة وقالوا: لو كان هدى ورشادا لتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه”. إذن السبب الذي قاد أبي الحسن الشعري إلى الاهتمام بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني هو الرغبة الذاتية في الدفاع عن علم الكلام باعتباره علما جديدا هدفه الأساس هو البحث في فهم الإيمان وإدراك مضمون العقيدة وتحديد المعاني الغامضة التي وردت في الكتاب والسنة من منظور أهل السنة والجماعة والمذهب الأشعري الذي استتب الوضع لمفكريه في العهد الذي بدأ الأتراك يتقوى نفودهم في الدولة العباسية بسبب ضعف الخلفاء العباسيين وقد بدأ ذلك مع الخليفة أبي إسحاق محمد المعتصم بالله الذي تولى الخلافة سنة 218هـ .
ارتباطا بما تقدم، عمل أبو الحسن الاشعري على استحضار مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لإبطال دعوى الحنابلة بأن علم الكلام مذموم ومنهي عليه مبرزا على أنه علم ضروري للبحث في أصول الدين موضحا من خلال أجوبته بأنه علم أصيل و يبحث في أمور كثيرة تتماشى ومقاصد الشريعة الإسلامية وقد مثّل لذلك بقضية الحركة والسكون التي أبرز بأنها تساعدنا على إثبات وحدانية الله، ولإقناع المتلقي بذلك استحضر الرجل النص القرآني الذي يقول فيه الله سبحانه وتعالى:” فلما جنّ الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلمّا أفل قال لا أحب الآفلين”
إذن الاهتمام بتأويل النص الديني تأويلا إيديولوجيا ارتبط عند أبي الحسن الأشعري برغبته الذاتية في استحسان الخوض في علم الكلام كعلم جديد يمكننا من فهم أصول الدين والدفاع عن العقيدة، ضدا على من ذهبوا إلى اعتباره بدعة وضلالة ، الرجل كان له تطلع واضح، نحو تجديد الفكر الديني عبر تأسيس علم الكلام والبحث في التراث الثقافي العربي والإسلامي عن موضوعه ومنهجه لضمان استقلاله وتطوره.
– العامل الثاني ويرتبط بتحديد الموضوع الذي يدرسه علم الكلام السني، وبلورة الرؤية إلى الكون والإنسان: إذا كان أبو الحسن الأشعري قد خصص كتابه “رسالة استحسان الخوض في علم الكلام” لتجديد الفكر الديني من خلال دفاعه عن ضرورة نشأة علم الكلام السني وبيان بأن هذا الأخير ليس بدعة ولا ضلالة ولا زيغا كم يقول الخصوم، فإنه حرص في باقي كتبه المرتبطة بعلم الكلام على التوجه إلى تحديد موضوعه وإبراز رؤيته وموقفه الفكري من خلال تأويل النص الديني (النص القرآني) تأويلا إيديولوجيا ينسجم مع رؤية مذهب الأشاعرة الذي حرص على الموازنة بين النقل والعقل ردا على الطرح المعتزلي الذي كان تاريخيا ينتصر للعقل في قراءة وتأويل النص الديني. الأسئلة المطروحة: ما هي القضايا التي ينبغي – في نظر أبي الحسن الأشعري – على علم الكلام أن يدرسها؟ بمعنى آخر ما هو موضوعه و لماذا اهتم الرجل بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني أي “النص القرآني باعتباره نصا لغويا محوريّا في الثقافة العربية” كما يقول المفكر المصري نصر حامد أبو زيد ؟
أبرز أبو الحسن الأشعري من خلال كتابه “اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع” بأن موضوع علم الكلام يتمثل في البحث في مجموعة من القضايا التي تدخل ضمن الأحكام الاعتقادية وهي الأحكام المتعلق بما يجب على المكلف أن يعتقده حول الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، إنه بحث في مجموعة من الأبواب المرتبطة بأصول الدين مثل صفات الله، والكلام في القرآن، والقدر، والعدل، والوعد والوعيد … إلخ
بالإضافة إلى ما أتينا على ذكره بخصوص القضايا التي يهتم علم الكلام بدراستها، بيّن أبو الحسن الأشعري من خلال منجزه “مذاهب الإسلاميين”، أن علم الكلام يمكن أن يتخذ من الأعمال التي قدمتها الفرق الكلامية مثل: الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة وأصحاب الحديث والسنة، موضوعات للدراسة والبحث بغرض قراءتها ونقدها و إعادة بنائها بناء ينسجم مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تتوخى مصلحة الإنسان الروحية والاجتماعية . و نعتقد بأن هذا التوجه الداعي إلى الإصلاح والتجديد هو الذي قاد الرجل إلى إنجاز كتابه “رسالة استحسان الخوض في علم الكلام” للرد على الخصوم الذين حكموا على علم الكلام بأنه بدعة وضلالة ولا ينبغي الخوض فيه. بحجة أنه مذموم ومنهي عنه.
إذن، العودة إلى التراث الثقافي العربي والإسلامي بغرض الاطلاع عليه وتجديده عبر مدخل التأويل والنقد كما نادى بذلك أبو الحسن الأشعري سابقا وينادي به الباحثون المعاصرون اليوم أمثال الناقد المغربي اسماعيل المساوي والكاتب اللبناني علي حرب وغيرهما يشكل توجها موفّقا في مجال البحث العلمي، لأن الواقع بمفهومه الاجتماعي والاقتصادي والعلمي متحول ومتجدد يقتضي من الباحث أن يكون قادرا على استشراف المستقبل والإجابة على أسئلته.
أما الرؤية الفلسفية التي كان أبو الحسن الأشعري يتطلع إلى بلورتها من خلال تأويل النص الديني تأويلا إيديولوجيا يتماشى مع المذهب الأشعري ومع توجهات أهل السنة والجماعة مستحضرا رؤى وتوجهات الخصوم وخاصة المعتزلة، فقد بينها في كتابه ” اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع”، وكل مطلع على هذا على الكتاب سيتبّن له من دون شك أن الرجل حاول التطرق إلى عشر أبواب تستهدف في مجملها البحث والتأمل في أصول الدين المرتبطة بسؤال الوجود ( وجود الله وصفاته ..) وسؤال الأخلاق ( أفعال الإنسان ومسؤولياته..) إذن لننتقل إلى بيان وتحديد أهم الأصول التي تطرق إليها أبو الحسن الأشعري في كتاب “اللمع”:
أ- وجود الله وصفاته : هذا الأصل له علاقة واضحة بسؤال الوجود، وقد فسره أبو الحسن الأشعري من منظور المذهب الأشعري الذي يعتمد على “إثبات وجود الله تعالى بالعوة إلى النظر والتأمل في خلقه للإنسان وتطور هذه الخلقة منذ أن كان نطفة ثم مضغة، ثم لحما وعظما ودما إلى أن صار إنسانا كامل الخلقة” إذن هذه حجة عقلية واقعية تثبت بأن الله موجود وبأنه هو صانع الإنسان والعالم، ومن أجل تعضيد هذا التصور الذي يثبت وجود الله وصنعه للإنسان ،استثمر أبو الحسن الأشعري النص الديني(النص القرآني) الذي يوضح مسار خلق الله للإنسان إذ يقول سبحانه وتعالى:” ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.”
في هذا الاتجاه، أكد الأشاعرة وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري أن من أهم صفات الله هو أنه واحد لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا، والواحد عند الأشاعرة هو الشيء الذي لا يقبل القسمة. وللإشارة فالذات الإلهية عند الأشاعرة تتصف بالتنزيه والسمو عن كل صفات النقص لذلك نفوا عن الله التشبيه والتجسيم وحلوله في المخلوقات أو اتحاده بها، وفي هذا كله رد على نزعات التجسيم والتشبيه والحلول التي تقول بها بعض الديانات السماوية التي تعرضت للتحريف مثل اليهودية والنصرانية، ولتعضيد هذا الأصل أي القول بوجود الله و وحدانيته ، حرص أبو الحسن الأشعري وباقي ممثلي المذهب الأشعري على استثمار النص الديني أي النص القرآني استثمارا إيديولوجيا بالشكل الذي يساير المذهب الأشعري ويسدّ باب شبهة التجسيم والتشبيه والحلول إذ يقول سبحانه وتعالى :” ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”. ثم قوله تعالى: “قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد. ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.”
وقبل ختم حديثنا عن صفات الله، نشير إلى أن “الأشاعرة قسموا الصفات الإلهية من حيث القدم والحدوث إلى قسمين أساسيين”: والصفات القديمة أو ما يعرف بالصفات الذاتية هي ما لا يجوز أن يوصف الله تعالى بضدها، وقد أجملها أعلام المذهب الأشعري في سبعة صفات وتتمثل في القول بأن الله تعالى حي بحياة، وقادر بقدرة، وعالم بعلم، ومريد بإرادة، وسامع بسمع لا بأدن، وباصر ببصر هو رؤية لا عين، ومتكلم بكلام لا من جنس الأصوات والحروف. أما صفات الحدوث أو ما يسمى بالصفات الفعلية وهي المشتقة من أفعاله تعالى مثل: الخالق والرازق والعادل…إلخ.
ب- التعديل والتجوير: بيّن أبو الحسن الأشعري من خلال الباب الذي تكلم فيه عن “التعديل والتجوير” أن وجوب فعل الأصلح على الله كما يذهب إلى ذلك المعتزلة غير صحيح لأن في ذلك تقييد لمشيئة الله تعالى مبرزا بأن المشيئة الإلهية لا تخضع لأي قيد أو شرط و بأن الفعل الإلهي فعل عادل وعلى هذا الأساس قال الأشعري :”بأن لله أن يؤلم الأطفال في الآخرة، ويعد ذلك عدلا إن فعله. و له أن يعاقب على الجرم الصغير بعقوبة لا تتناهى، وأن يسخر الحيوان بعضه لبعض… وله أن يلطف بالكفار ليؤمنوا” إذن كل هذا يعد عدلا في نظر الأشاعرة ” والدليل على أن كل ما فعله فله فعله هو أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك، ولا فوقه مبيح، ولا آمر، ولا زاجر، ولا حاظر، ولا من رسم له الرسوم وحدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا، لم يقبح منه شيء، إذا كان الشيء إنما يقبح منا لأنا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك إتيانه.”
إدن التحسين والتقبيح في الرؤية الأشعرية ليسا عقليين كما يعتقد المعتزلة بل كلاهما من الله، وهو وحده مصدر التقويم لأن الله تعالى هو أعلم بما تخفي وتبدي الصدور مصداقا لقوله تعالى:” قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير.”
ج- الإيمان: في الباب المتعلق بموضوع الإيمان أو ما يعرف عند بعض الفرق الكلامية “بمشكلة الأسماء و الأحكام”، كشف أبو الحسن الأشعري- في سياق بلورة رؤيته الفلسفية لله والإنسان والحياة الدينية والاجتماعية- عن تصور مؤداه أن الإيمان هو التصديق بالله، ولهذا يرى بأن الفاسق من أهل القبلة مؤمن بإيمانه، فاسق بفسقه وكبيرته. ولا يجوز أن نقول عنه لا مؤمن ولا كافر لأنه “لو كان الفاسق لا مؤمنا ولا كافرا، لم يكن منه كفر ولا إيمان، ولكان لا موحدا ولا ملحدا، ولا وليا ولا عدوا. فلما استحال ذلك استحال أن يكون الفاسق لا مؤمنا ولا كافرا كما قالت المعتزلة – وأيضا فإذا كان الفاسق مؤمنا قبل فسقه بتوحيده، فحدوث الزنا بعد التوحيد لا يبطل اسم الإيمان الذي لم يفارقه.”
ارتباطا بما أتينا على بيانه، ذكر المتكلم عبد القاهر البغدادي الأشعري المذهب، أن الأشاعرة اختلفوا في تحديد معنى الإيمان وانقسموا في ذلك إلى ثلاث مذاهب: “قول أبو الحسن الأشعري إن الإيمان هو التصديق لله ولرسله عليهم السلام في أخبارهم. ولا يكون هذا التصديق صحيحا إلا بمعرفته. والكفر عنده هو التكذيب، ثم قول عبد الله بن سعد أن الإيمان هو الإقرار بالله عز وجل وبكتبه ورسله، إذا كان ذلك عن معرفة وتصديق بالقلب. فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم يكن إيمانا. أما أصحاب الحديث والباقون فقد قالوا بأن الإيمان هو الإقرار بأركان الإيمان والعمل بأركان الإسلام.”
د- القدر/ أفعال الإنسان: إذا ما تأملنا الآيات القرآنية التي تتناول قضية الحرية والجبرية في الحديث عن أفعال الإنسان ، فإننا سنجد البعض منها يحيل ظاهريّا على أن الإنسان هو من يختار أفعاله مثل قوله عزّ وجل: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.” و هناك آيات أخرى تبين بأن الله هو خالق أفعال الإنسان مصداقا لقوله تعالى:” قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا.” ارتباطا بهذه المعطيات، ووعيا من أبو الحسن الأشعري بضرورة إنتاج “نظرية الكسب” كحل توفيقي بين ما ذهب إليه الجبريون وما ذهب إليه القدريون، بيّن الأشعري بأن الإنسان مجبور في الباطن لأن الله هو الذي يخلق أفعاله ومختار ظاهريا لأنه هو الذي يكسب ما يترتب على الفعل من خير أو شر، وهذا ما أكده فخر الدين الرازي من خلال مقولته المشهورة التي تنزع نحو مبدأ التوفيق و الاصلاح بين الفرق الكلامية إذ يقول : “الإنسان مجبور في صورة المختار”.
إجمالا، أفعال العباد مخلوقة لله، وليس للإنسان فيها غير اكتسابها، أي أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وما الإنسان إلاّ مكتسب للفعل الذي أحدثه على يدي هذا الإنسان. والكسب هو تعليق قدرة العبد وإرادته بالفعل المقدور المحدث من الله على الحقيقة.
ي- الوعد و الوعيد: يعد هذا الأصل من الأصول الأساسية التي حظيت باهتمام كل الفرق الكلامية وعلى رأسهم فرقة الأشاعرة، وهذا ما جسده أبو الحسن الأشعري حينما تطرق إليه على أساس أنه باب من الأبواب العشرة الأخرى التي ينبغي التفصيل فيها في كتاب “اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع” إذن ما هو المدلول اللغوي والاصطلاحي للوعد والوعيد؟ وما حكمهما في نظر الأشاعرة
فيما يخص المدلول اللغوي والاصطلاحي للوعد والوعيد، تشير المعاجم اللغوية على أن الوعد، لفظة تستخدم بغرض وعد الغير بشيء ما، أي أنه يمنيه بشيء معين. ومن الناحية الاصطلاحية، الوعد يعني كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل. أما الوعيد فيفيد في اللغة، التخويف والتهديد ولا يستعمل إلاّ في الشر. وفي الاصطلاح، فهو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه.
بالنسبة لحكم الوعد والوعد، ذكر أبو الحسن الأشعري بأن “الله تعالى وعد المؤمنين بالجنة جزاء لهم عما كانوا يعملون” مستشهدا على ذلك بظا هر النص القرآني الذي يقول فيه عزّ وجل: “من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون” “مبرزا بأن الله توعد الكافرين بالنار” مستشهدا على ذلك بقوله عز وجل:” فأندرتكم نارا تلظى، لا يصلاها إلاّ الأشقى، الذي كذب وتولى” في هذا السياق أوضح الأشاعرة بأنه يجوز أن يخلف الله وعيده في حق من يشاء من عباده وذلك ليس نقصا في حقه تعالى بل يعد كرما يمتدح به.
2-العوامل الموضوعية: تتلخص العوامل الموضوعية التي دفعت أبو الحسن الأشعري إلى الاهتمام بتأويل النص الديني تأويلا إيديولوجيا، في وجود عاملين أساسيين، العامل الأول ويرتبط بالقران الكريم باعتباره نصّا لغويا يتضمن الحديث عن النظر العقلي وعن وجود المحكم والمتشابه من الآيات، والعامل الثاني يتجسد في الأحداث السياسية المتعلقة بمشكلة الإمامة وما طرحته من صراع على الحكم بعد وفاة النبي صلى الله علية وسلم. إذن للننتقل إلى بيان وتوضيح هاذين العاملين:
– العامل الأول ويرتبط بالنص القرآني: يعود سبب اهتمام أبو الحسن الأشعري بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني و إبراز رؤيته الفلسفية إلى وجود ثنائية المحكم والمتشابه من الآيات ووجود ثنائية الظاهر والباطن، و حرصا منه على ضرورة تفادي الوقوع في التشبيه والتجسيم ، فقد أَوَّلَ كلمة الاستواء الواردة في الآية الخامسة من سورة طه ، بحملها على العلو والارتفاع مبرزا بأن الله عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار، مصداقا لقوله تعالى: “الرحمان على العرش استوى” وقال عز وجل لعيسى بن مريم عليه السلام :”إني متوفيك ورافعك إلي” وقد أبرز أبو الحسن الأشعري أن الأمة أجمعت كذلك على أن الله عز وجل رفع عيسى إلى السماء وكل هذه أدلة وظفت بغرض حمل الاستواء في الآية على العلو والارتفاع ردا على طرح المعتزلة الذين حملوا الاستواء في الآية على الاستلاء والقدرة. السؤال المطروح الآن هو: هل العامل السياسي قاد الأشاعرة إلى تأويل النص الديني تأويلا إيديولوجيا للتعبير عن رؤيتهم وموقفهم من الواقع السياسي الذي كان قائما في المجتمع العربي الإسلامي؟
– العامل الثاني ويرتبط بقضية الإمامة: إذا كانت الأسباب السياسية من العوامل المهمة والمباشرة التي أدت إلى نشأة و ظهور الفرق الكلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واشتداد الصراع السياسي بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فإن العامل الأساس الذي قاد الأشاعرة إلى الاهتمام بالتأويل الإيديولوجي للنص الديني هو حرصهم على تأكيد وجودهم والتعبير عن رؤيتهم وموقفهم من الصراع السياسي حول السلطة وكيفية تنظيمها لتفادي الصراع والفتن في المجتمع الإسلامي. إذن هل كان فعلا لقضية الإمامة كقضية سياسية حضور في كتابات أبو الحسن الأشعري؟ وإذا سلمنا بأن الصراع على السلطة (الإمامة)، قد دار في البدئ بين المهاجرين والأنصار وبين بني هاشم، فمن هي الفرقة التي حاول الأشاعرة تاريخيا الانتصار إليها من خلال تأويل النص الديني؟ وهل الإمامة تثبت في نظر الأشاعرة بالاتفاق والاختيار أم بالنص والتعيين؟
الاهتمام بحياة الناس الاجتماعية والانخراط في إصلاحها أخلاقيا و سياسيا، تجسدت عند أبي الحسن الأشعري في حضور قضية الإمامة كقضية أساسية في مشروعه الفكري بحيث تطرق إليها في كتبه الثلاث الآتية:
– كتاب “مذاهب الإسلاميين”: في هذا الكتاب تكلم الأشعري عن الإمامة وأبرز بأنها كانت موضوع خلاف بين الفرق الكلامية بحيث هناك من الفرق الكلامية من تكلم بأنها ينبغي أن تكون من بني هاشم وهناك من تكلم على أنها يمكن أن تكون من الأنصار وهناك من اختار المهاجرين؟
– كتاب “اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع”: هذا الكتاب خصصه للحديث عن أصول الدين التي تعد من المواضيع الأساسية التي يهتم علم الكلام بدراستها مثل وجود الله وصفاته ، والتعديل والتجوير، والوعد والوعيد…إلخ، وفي هذا الكتاب الذي خصص لتناول الأصول تطرق أبو الحسن الأشعري لموضوع الإمامة تحت عنوان “باب الكلام في الإمامة” وهذا يعبر على أن الأشاعرة كان لهم إلى جانب المعتزلة اهتمام بالحياة السياسية والمدنيّة ، وكانوا يقدمون تصورهم ويحددون موقفهم من الوضع السياسي القائم بما يتناسب مع مذهبهم ومذهب أهل السنة والجماعة. ولهذا ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب “اللمع” بأنه “وجد الناس على ثلاثة أصناف: قائلين يقولون بإمامة علي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقائلين يقولون بإمامة العباس رضي الله عنه وقائلين يقولون بإمامة الصديق رضي الله عنه.. و رأى بأن عليّا والعباس قد بايعا وانقادا لأمر أبي بكر الصديق … وأجمعت الأمة على بيعته والانقياد لإمامته على أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
لم يكتف أبو الحسن الأشعري بالاستدلال بحجة الإجماع على أحقية أبي بكر الصديق بالإمامة، بل حاول تثبيت وتعضيد ذلك بالنص القرآني مبرزا في كاتبه “الإبانة في أصول الديانة” أن الله مدح وأثنى على من بايعوا أبا بكر الصديق وانقادوا له، وأقروا له بالنظر لما كان يتميز به من الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي إذ يقول سبحانه وتعالى: ” لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يُبايعونك تحت الشجرة “، وكل هذا يقضي في نظر أبي الحسن الأشعري “ببطلان قول من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّب عليا بعده إماما”.
إذن الأشاعرة اعتبروا بأن اختيار أبا بكر الصديق بأن يكون إماما لا تحكمه أي نزعة قبلية تتوخى الانتصار للمهاجرين أو الأنصار أو بني هاشم وإنما الأمر مرتبط بما قدمه الرجل من خدمة للإسلام والمسلمين وبما كان يتميز به من كفاءة علمية وحسن الأخلاق وسداد الرأي. و بيّنوا في السياق ذاته بأن اختيار ولاة أمور المسلمين يجب أن تكون “لأهل الحل والعقد”.
استنتاج: يستنتج مما تقدم أن الانشغال بالتأويل الايديولوجي للنص الديني يعود إلى اهتمام الأشاعرة كفرقة كلامية بالقضية السياسية وبرغبتهم في تحديد موقفهم السياسي مما يجري في المجتمع الإسلامي من صراعات سياسية على السلطة، ويعود كذلك إلى ثنائية المحكم والمتشابه والظاهر والباطن التي حكمت النص الديني والى رغبة أبي الحسن الأشعري في الدفاع عن علم الكلام و بلورة تصوره للذات الإلهية و صفاتها بما يتناسب مع توجهات المذهب الأشعري الذي يعتمد على مبادئ أهل السنة والجماعة. وإذا كان التأويل الإيديولوجي للنص الديني يقتضي في تقديرنا استحضار المقاربة التاريخية والوضع السياسي والاجتماعي ومعرفة موقع المثقف أو المفكر في النظام السياسي القائم أي معرفة موقعه في الجهاز الإيديولوجي للدولة بتعبير الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير، فإن “الاهتمام بإشكالية اللفظ والمعنى التي أثارها المتكلمون و البلاغيون وكذا النحاة والنقاد تظل مدخلا أساسيا لتأويل النص الديني وقياس مدى جودة نظمه ومعانيه لحظة بناء الخطابات الفنية والإبداعية كما ذهب إلى ذلك الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني”
شؤون فكرية : أبو الحسن الاشعري والقاضي عبد الجبار ورؤيتهما الفلسفية الى الانسان والكون.
