في الآونة الاخيرة قرات ثلاث كتب لبلزاك الذي مات في الواحد و الخمسين من عمره كتب ما يقرب من خمسين رواية و مجموعة قصصية . لم يكن لديه متسع من الوقت يكفي لاحتواء هذا السهل الهائل من الكلمات بين دفات الكتب . فكان ينام معظم النهار ليكتب طيلة الليل كشهرزاد و هي تحكي . وفي رواية ( خيالات ضائعة ) و هي اطول رواياته اطلاقا , نجد على الاقل بطل واحدا من ابطالها العدة و هو يصر على مثل هده المسابقة العنيدة , متابعة اختراعه ورقا جيدا للطباعة سنة بعد سنة و هو يصهر العمر و الحياة و لا ينتهي اصراره و ملاحقته هدا الاختراع الذي في النهاية يستغله غرماؤه و قد اوقع به ارباب الاعمال و رجال القانون بألاعيبهم واحابيلهم . ولا يهتم ( داوود سيشار ) بطل هذه الرواية لذلك كله . فهو من الناحية العملية ساذج سذاجة بلزاك نفسه الذي طوحت به اطماعه في عالم الطباعة في مثل هذه النهاية اللا مجدية . ولكن الجدوى هي في هده الملاحقة المستمرة للخيال المغري و الكلمات تتهاوى من بلزاك انتقاما من الذين قهروه في حياة المال و المادة . صفحة اثر صفحة و هو يصور اللؤم الانساني المستغل للقيم . و الطريف ان عاشق الكلمات في الرواية هو الشاعر ( لوسيان ) اخو زوجة (سيشار) الذي تحمله الفاظه السحرية من حضيض الريف و بلاهة الحقول الى احضان السيدة ( دوبارجتون) و معها الى باريس ومنها الى الخسارة و الاملاق . اذ يكون المجتمع له بالمرصاد مما يجعله عالة على ممثلة , ثم الى محاولة الانتحار . الى ان يعثر عليه و ينقذه ذلك الدبلوماسي الاسباني راهب طليطلة الذي يأخذه في عربة و يطلعه بفصاحة عن دسائس الحكم و على تناقضات المجتمع التي لابد من فهمها ثم الحصول على الدوقة المرجوة . اكاد اجزم ان هدا الراهب الداهية هوالاصل في شخصية (المفتش الاعظم ) في رواية دستويفسكي ( الاخوة كرامزوف ) . ولئن اخفق ( لوسيان ) في الحصول على الدوقة , فقد افلح بلزاك بعد خوض بحار من كلمات لسنين عديدة من حياته في الزواج من النبيلة البولونية السيدة ( هانكا ). ولكن لم يكتب له هناء طويل اذ مات بعد الزواج بأشهر خمسة. .
و في رواية ستندال ( شارتروز دو بارم 1839 ) هذا البحر المتلاطم من الكلمات الذي يصور الحياة في دويلة من دويلات ايطاليا . قد تعد نموذجا لأية دولة كبرى , الامير , الوزير , العشيقات , الثائرون الجمهوريون , العملاء , الجواسيس و السجون . انها صورة عاجة بكل قضايا الحكم . و هي في مضامينها الاساسية مازالت جزأ من عصرنا الراهن بما فيها هدا التناقض بين عقائد المرء و علاقاته الشخصية النفعية . وهي ان يكن بطلها الشاب الثائر ( فابريزيو د نفو ) فان البطولة بمعناها الروائي الدينامي موزعة على رجال و نساء كثيرين منهم الوزير الداهية ( الكونت موسكا ) وكأنك ترى دخائل الداهية السياسي النمساوي ( ميترنيخ ) عراب الحلف المقدس ضد( بونابرت ) . و عشيقته ( جينا سان سفرينا ) وهي تداري حبها ( للكونت موسكا ) دعامة الحكم بهذه الدويلة من ناحية , ولابن اخيها ( فابريزيو ) المتمرد على الحكم من ناحية اخرى . و حاكم بارما الامير ( ارنستوا الرابع ) و هو امير ميكيافلي من الراس حتى القدم . و ( كيليليا ) تلك الفتاة المعذبة التي تطوي ضلوعها على حبها المقهور الصامت ( لفابريزيو ) فهي رغم ذلك تنقذه من السجن و يكاد يكون ابوها هو الضحية . ثم هناك الشاعر الثائر ( فرانتا بيلا ) الذي يشعل الثورة و يصرف عليها من مال الدوقة ( جينا ) خليلة الوزير ( موسكا ) و يختبئ في بيتها كل ما اقتضى ذلك نشاطه الثوري . ( فابريزيو) يصل بين هذه الاطراف و عشرات الاطراف الاخرى بشخصيته القلقة المحمومة و الكلمات تنساب و تتواثب مرة اخرى تواثب هذا المتمرد على الامير. حيث يتمثل البغي في نعومة الالفاظ و المداهنة و النفاق المعسول و وراءها تكمن القسوة والدسيسة ثم القتل . كان ستندال نفسه لا يحب من الكلمات الا ابسطها و اكثرها مباشرة . يلعب بها لعب الساحر و يرسم بها صورة لدهاء الحكام و حقاراتهم ثم دهاء المتمردين و خستهم . و هو واقعي في تفاصيله حيث يبدو معاصره بلزاك و ان كان موغلا في الواقعية رومانسيا في عواطفه , حيث يذرف البطل العاشق لديه كلما اخفق سيلا من الدموع . مع ان هذا الاخير كان معنيا بتصوير حياة الريف و حياه المدينة و كذا الحياة الفلسفية في رواياته التي اطلق عليها اسم ( الكوميديا الانسانية ) . اما ستندال الدبلوماسي المحترف فمع ان موضوعه يشبه قلاعا رهيبة و قصورا و مؤامرات و دسائس كلها رومانسية الروح فإنه يزم على عواطفه و يسيرها بقبضة رجل لا تخدعه الحياة لحظة واحدة . و قد قارنه بلزاك امتداحا بوولتر سكوت فثارت ثائرته على هذه المقارنة ناعتا سكوت بالبلادة و الكلام الاجوف . بين طرفي بلزاك و ستندال نرى الكاتب الفرنسي تيوفيل غوتييه وهو يكتب في شبابه في سن الرابعة و العشرين رواية ( مدموازيل دو موبان 1835 ) . انها رواية المرأة الفاتنة بصورها العديدة من الشيطان الى الملاك و ان يكن اميل الى شيطانيتها الناعمة الخطرة و اللذيذة . و ( مادلين دي موبان ) هذه البطلة الفاتنة تتنكر في كل زي . لاسيما زي الرجال و توحي بشتى انواع الحب . اذ لا حياء في الحب عند غوتييه . الحب لديه شبق كما هو ضرب من ضروب الصوفية و التجلي العرفاني . فقد كان غوتييه من اول عهده من رواد الرومانسية الفرنسية . بعدهم بقليل في الطرف الاخر من المحيط الاطلسي نرى شابا اخر قضى اول الصبا بحارا يجوب الافاق بين جزر المحيط شمالا و جنوبا . يخلق هو ايضا حبالا من الكلمات الرهيبة كالبحار الذي جابها في الشتاء ات المظلمة. انه هرمان ميلفل صاحب الرائعة ( موبي دك ) او الحوت ( 1851 ). كانت اول عبارة وصف بها بطله ( اسماعيل ) هي جواب الافاق و الاب المثالي لذرية انتشرت عبر الارض . و ( اسماعيل ) اذ يجوب الافاق يريد تطهيرها من رجسها الكامن فيها . انه يراقب الكابتن ( اهاب ) وهو مساعد البطل ( اسماعيل ) في بحته الدؤوب عن الحوت الابيض الذي يمثل الشر و يجعل من ( اهاب ) رجلا عبوسا و متجهما قليل الكلام . واذ نطق فانه يفجر دماميل الرعب في كيان البشر ية . و هرمان ميلفل يقتادنا جميعا مع (اسماعيل ) و ( اهاب ) هذا الربان الشجاع حتى النخاع عبر اوقيانوس الالفاظ و الرموز وهو رمز للتضحية و الفداء من اجل بناء مجتمع تعمره القيم الحميدة . كما ان اسماعيل رمز لبقاء الذرية الصالحة و استمرارها . فقد عبر
( اهاب ) بحار الدنيا لينازل الحوت الابيض و لن يكون الصراع سهلا . انه صراع يحتدم لأيام ثلاثة بلياليها و اذا ما انتهى بعد لأي و كفاح إلى انتصار الانسان , يكون هذا الانتصار فاجعا. اذ يحطم الحوت السفينة الصغيرة و يلقيها بربانها الشامخ و كل من عليها من رجال الا ( اسماعيل ) لابد له من نجاة حتى تستمر الذرية . و كاتب اخر استبدت به حمى الكلمات الى درجة الاعجاز . انه دوستويفسكي . كم من الكلمات كتبها صاحب ( الجريمة و العقاب ) ثم من الشخصيات التي رسمها و هي تقارع مصائرها العاتية. حتى رواية ( الابله ) مثلا في حوالي الف صفحة كتبها و هو في المنفى متنقلا من بلد الى بلد و قد هرب من روسيا التي يحبها . حيث حاصر نفسه في غرفة بفندق وهو يكتبها عن انسان كامل سماه بالأبله . يقول دوستويفسكي ( انهيت رواية الابله وقد تحول راسي الى طاحونة هواء لست ادري كيف نجوت من الجنون ) ان هذا الممسوس بالعبقرية كان يكتب بغزارة و دون انقطاع وهو يستدين من اصدقائه . فقد عانى من نوبات الصرع قبل الشروع في كتابتها و قد تكررت عليه هذه النوبات بأفدح مما يطيقه انسان . يكاد المرء يعجز عن حصر هذه التجربة المذهلة و المعقدة في تصوير البراءة, التمرد, البؤس, العشق, النذالة, الخوف… انها صورة المسيح من جديد في عالم لم يعد يستطيع تحمل المحبة و التضحية و لم يعد يؤمن بها كما ينبغي . فالطبقة الأرستقراطية و زمرة الجنرالات كانتا هدفا مرسوما بدقة لسهامه النقدية ذما و تحطيما. انه تجسيد لذلك الهوس الغامض المقدس الذي يجعل من الانسان مخلوقا يحار في سره القديسون كما كان يردد دوستوفسكي هذا الروائي العظيم حد الاسطورة.
نقديات الجمعة: كلمات منقوشة بأحرف من نار…
