حين نقرأ كتاب “لذة الفكر وألم الواقع” للكاتب الصحافي عبد الرحمان بنونة، ندرك منذ الصفحات الأولى أننا أمام صوت فكري يؤمن بأن القراءة ليست ترفا، بل ضرورة وجودية، وأن الكتابة ليست تمرينا لغويا، بل فعل مقاومة ضد الرداءة والسطحية. هذا الكتاب هو احتفاء صادق يوهج العقل ومرارة التجربة الإنسانية، كما رآها وعايشها أصحابها في مختلف بقاع العالم.
الكاتب عبد الرحمان بنونة لم يكن طارئا على عالم الحرف، بل هو من أولئك الذين نذروا أنفسهم للمعرفة والكتابة والقراءة، فكان، منذ بداياته، مسكونا بشغف السؤال، وعشق الكبار من المفكرين والأدباء. لقد نشأ في بيئة تؤمن بأن الفكر يغني الروح، وأن الكتابة تنير الدرب. ولذلك جاء هذا الكتاب ثمرة لمسار طويل من التتبع، والقراءة، والانخراط في الشأن الثقافي والفكري، بوعي نقدي وإنساني رفيع.
منذ صغري، كنت أرى فيه أبا روحيا، صحافيا محترفا، مدمنا على القراءة والانكباب على المعرفة. كان يقول دائما: “القراءة، إن لم تغن، فإنها تضمن كرامة المعرفة، وتعلمنا كيف ننتصر للإنسان.” وكان يبتسم ابتسامته الهادئة وهو يضيف: “القراءة مستشفى العقول، تعالج الجهل والتفاهة ومختلف العلل.”
لم يقتصر على ممارسة الصحافة وأجناسها ضمن الصحف الوطنية، بل منح الكتابة الأدبية والفكرية حيزا خاصا في تجربته. هكذا صدر كتابه “لذة الفكر وألم الواقع”، الذي خصصه للتعريف بقامات فكرية وأدبية من مختلف القارات، ومن مدارس فكرية ومسارات متعددة. لم يكن الغرض مجرد التوثيق، بل إحياء تجارب هؤلاء الكبار، واستحضار مساراتهم، ونبش تفاصيل من حياتهم وأعمالهم التي ستظل منذورة للخلود.
لقد نجح الكاتب في رسم صور إنسانية نابضة، لأصوات فكرية ستبقى حية في وجداننا، رغم تقادم الأجيال وتغير الأزمنة. هذه الأصوات، رغم مغادرة البعض منها للعالم الآخر ، لن تصاب بما يصيب البشر من شيخوخة ونسيان، لأن كتاباتهم ما زالت تسكننا بنبراتها المختلفة، وصدقها العميق، ونبلها الإنساني.
ويقول إن الشيء الذي يجمع بين هؤلاء جميعا، هو ما يشير إليه عنوان الكتاب نفسه: “لذة الفكر وألم الواقع”. فهؤلاء المفكرون، كل بطريقته، تحدوا قسوة الواقع ومراراته، وتمسكوا بلذة الفكر، سعيا لفهم العالم، وتأويل رموزه، واستيعاب تناقضاته في زمن بات يتسم بالتسارع والتفكك.
لقد عبروا عن تطلعات وآمال، كما عانوا من خيبات وانكسارات. لكنهم، في كل ذلك، ظلوا مخلصين لفكرة أساسية: أن الفكر أداة لفهم الحياة لا للهروب منها، وأن على الإنسان أن يظل وفيا لقيم الجمال والحرية والكرامة، مهما كانت ظروف الواقع مؤلمة.
من خلال هذا الكتاب، ينجح عبد الرحمان بنونة في ربط القارئ بحياة نخبة من المثقفين الملتزمين، ممن التحموا بقضايا مجتمعاتهم والهم الإنساني العام، وسعوا جاهدين لترسيخ المبادئ النبيلة، وقيم النبل، والحلم، والجمال، في زمن يميل نحو التفاهة والتسطيح.
“لذة الفكر وألم الواقع” ليس فقط عنوانا لكتاب، بل خلاصة لمسار حياة كاملة، عاشها في حضرة الكلمة والمعنى، وبين ضفتي السؤال والمعرفة، مؤمنا أن الكتابة، حين تكتب بصدق، تظل أسمى من مجرد شهادة على العصر، إنها مقاومة راقية، ودعوة للإنسان كي لا يفقد حبه للحياة.