شؤون ثقافية: نافذة على مسرح موليير: مسرحية البورجوازي النبيل وسؤال التسلق الاجتماعي.

شأنكم15 أبريل 2022آخر تحديث : منذ 3 سنوات
شأنكم
أخبارثقافة وفن
شؤون ثقافية: نافذة على مسرح موليير: مسرحية البورجوازي النبيل وسؤال التسلق الاجتماعي.

بقلم ناصر الحرشي….
الخطاب المسرحي يمارس سلطة رهيبة، يبدو بسيطا في ظاهره، لكن في الحقيقة هو منتوج خطابي إشكالي يترجم الصراعات وأنظمة السيطرة (ميشيل فوكو) ويمتلك سلطة رمزية تحاول الاستيلاء على مستهلكيه، سواء كان هذا المستهلك متلقيا عموميا أو عليما بنظام الخطاب المسرحي وببناه الابستيمية، ضمن هذا الإطار المنهجي، فإن الذات المؤسسة لهذا الصنف من الخطاب ترجع إلى العوامل المتحكمة في آليات إنتاجه المستقلة عن إرادة الذوات المنتجة والمستهلكة له. كشرط من شروط إمكان تشكله أو الشاشة العاكسة له. وهي لعبة البنيات التحتية والبنيات الفوقية، ففلسفة الأحداث وعملية إنتاجها تتعدد بتعدد الذوات الفاعلة والمؤسسة لها، وفق وضعيات ومواقف ممكنة ضمن آليات انتظامية نسقية محصورة في سلاسل خطابية ستكون هي نقطة الارتكاز في البناء الهيكلي للمسرحية. أود أيضا تناول المسألة نفسها لكن من زاوية أخرى، فأبو الفنون كفرع معرفي في رسالته الكونية المتميزة وكذا في مظهره النشوئي هو خطاب سوسيولوجي يهمس مسبقا بلغة الواقع الحي الصادم في فجاءاته. هذه البويضة الحاضنة له هي النواة الأولى والشرط الموضوعي في ولادته ثم تحوله، إلى لعبة دلالات الباطن، الصامت للوعي بالذات. نفهم الآن بصورة أحسن كيف أن الممارسات القولية لكل ممارس للفعل المسرحي كما في أنواع الخطاب وضروبه، تحرج بحديثها نظام العالم، فالملكة الشاملة للغة والاستعمال الجمالي والإيحائي لها هي ميزة كل فن مسرحي وهو يعكس الطبيعة البشرية (مبدأ المحاكاة الأرسطوطاليسي). مسرحية «البورجوازي النبيل» أو مسرحية «الثري النبيل» للكاتب المسرحي الفرنسي الساخر موليير. تدور أحداثها بالكامل في منزل السيد البورجوازي (جوردان) في باريس الشخصية الرئيسية في هذه المسرحية الهزلية.
وهو رجل في منتصف العمر أصبح والده ثريا كتاجر للأغطية والأقمشة، وورث النشاط التجاري نفسه عن أبيه، ويتركز كل هم «جوردان» الأحمق، الساذج والجاهل في الارتقاء من الطبقة المتوسطة التي جاء منها كي يصير نبيلا أرستقراطيا وتحقيقا لهذه الغاية، يأمر بشراء ملابس جديدة وجميلة، ويطير فرحا وفي سذاجة عندما يناديه صبي الخياط في استهزاء بلقب سيدي. كما يقدم على تعلم فنون النبلاء المتمثلة في المبارزة، الرقص، الموسيقى، الأبهة والتفاخر والفلسفة على الرغم من كبر سنه.
وأثناء قيامه بذلك ينجح في أن يجعل من نفسه أضحوكة ويثير اشمئزاز مدرسيه الذين استعان بهم لتعليمه بشكل دائم (أستاذ الرقص، أستاذ الموسيقى، معلم فنون المبارزة، أستاذ الفلسفة) وقد تحول درس الفلسفة عنده إلى مجرد درس في اللغة، وكيف تنطق الحروف، ومما أثار دهشته أنه كان طوال عمره يتحدث نثرا بدون أن يدري. أما زوجته السيدة جوردان العاقلة والمتزنة، فترى أنه يجعل من نفسه مثارا للسخرية وتحثه على الرجوع عن غيه والتمسك بأصله الاجتماعي المتوسط والخالي من المظاهر الكاذبة، لكن جوردان العنيد والأهوج لا يأبه لكلامها، كما كان له صديق وهو نبيل مفلس وطفيلي يدعى الكونت دورانته، على الرغم من كونه يكره ويحتقر السيد جوردان في قرارة نفسه فهو يتملقه ويطاوعه في أحلامه الأرستقراطية المجنونة، حيث ادعى أمامه كذبا بأنه قد ذكر اسمه في قصر فرساي أمام الملك، وذلك لكي يقنع المغفل جوردان بسداد ديونه. وتتزايد أحلام جوردان في التسلق الاجتماعي أكثر فأكثر، فيحلم بأن يتزوج الماركيزه (دوريمين) وأن يزوج ابنته (لوسيل) من رجل من النبلاء، لكن هذه الأخيرة تحب (كليونته) الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، لكن الأب الذي يحلم بأن يصير من حاشية الملك ونبلائه يرفض هذا الزواج. وبعد ذلك يقوم كليونته العاشق التعيس بمساعدة خادمه الوفي (كوفييل) بالتنكر ويقدم نفسه لجوردان بوصفه ابن السلطان التركي، وكما هو متوقع انطلت الحيلة على جوردان الغبي ووافق وهو في قمة سعادته على زواج لوسيل من عائلة ملكية تركية، وأن عائلة هذا الأمير التركي سترفعه رسميا لمنزلة النبلاء في حفل راقص خاص. ويعرض المشهد الأخير من المسرحية هذا الحفل المضحك الذي يتم فيه التحدث بلغة غير مفهومة اعتقد أبو العروس أنها اللغة التركية.
يعري موليير في هذه المسرحية الهزلية الكبيرة، التي ذاعت شهرتها، الطبقات وأخلاقياتها، كالطبقة البورجوازية التجارية الصاعدة في القرن السادس عشر في فرنسا كطبقة طفيلية مزيفة القيم، تريد الصعود الاجتماعي والارتقاء عن طريق الثروة انطلاقا من حصول هذه الأخيرة على سلطة المال، معتقدة أن الثراء وحده يؤهلها لأن تصبح من علية القوم على حساب طبقة نبيلة آخذة في الترنح والانهيار الاجتماعي، تفتقر للثروة والمال، كما يتضح جليا من خلال المقابلة بين شخصيتين تنتميان إلى فضاءين اجتماعيين متناقضين.
شخصية جوردان الثري والجاهل تاجر الأغطية البورجوازي الصاعد وشخصية دورانته النبيل الارستقراطي الرفيع النسب والثقافة، المفلس الفاقد للثروة والغارق في الديون. لعل الاكتشاف الأكثر دلالة هو ما اكتشفه لوسيان غولدمان في أعمال مسرحية لكورناي وراسين وباسكال، بالتوقف عند مقولة معينة تتوارد بكثرة، وهذا له علاقة كبيرة بمسرحية «البورجوازي النبيل» لموليير وهي الله، العالم، الإنسان. وتحدد هذه المقولات علاقة الغياب الإلهي في العلاقات القائمة بين الناس وموت القيم لديهم، مقابل المال والعلاقات التبادلية السلعية. فرؤية هذه الأعمال المسرحية المذكورة آنفا هي رؤية تراجيدية، وقد ربط غولدمان هذه الرؤية المأساوية بالحركة الدينية الفرنسية الجانسينية وتفسير الجانسينية بوصفها نتيجة إزاحة مجموعة بعينها (النبلاء الجانسينيون أو نبلاء البلاط) الذين اعتمدوا اقتصاديا على الملك وهي مجموعة نبالة الرداء من موظفي البلاط الذين تضاءلت قوتهم مع تزايد الحكم المطلق للملك، ويتجلي التعبير المتناقض لهذه الجماعة، أي الحاجة إلى التاج ومعارضته سياسيا في آن. وينطوي هذا الموقف على دلالة كبيرة عند غولدمان، فنبلاء الرداء كانوا أعضاء جدد في الطبقة البورجوازية، أعضاء يمثلون إخفاق هذه الطبقة في كسر حدة الحكم الملكي المطلق وتأسيس أوضاع تساعد على التطور الرأسمالي في فرنسا القرن السابع عشر.
إن سهام سخرية موليير في هذه المسرحية الكوميدية كانت موجهة بالأساس إلى هذه الطبقة البورجوازية الطفيلية، التي بدأت تبحث لنفسها عن مكان يضاهي تحقيق ثروتها في زمن صارت فيه الثروة، لا النبالة أو المعرفة والحسب والنسب معيار الوصول إلى المكانة الاجتماعية المرموقة. وهي صورة للهجوم المضاد للطبقة الارستقراطية في شخص الملك وحاشيته، الذي شنته على ذلك الصعود الطبقي لفئة من الناس حققت ثروتها بالتجارة، وتريد أن تحصل على مكانة مميزة عن طريق ثقافة مزيفة، وعبرت عن الابتذال الفكري والسلوكي في أسمى تجلياته، ومظهر ثقافي غير لائق. كما سخر موليير من الأتراك وثقافتهم الشرقية المتخلفة، على الرغم مما كان يمثله كل ما هو تركي في تلك الحقبة التاريخية من مجد وفخامة وأبهة في نظر البورجوازية التجارية الباريسية الصاعدة، وكذا بورجوازيات أوروبا. فمشهد الرقص واللحن والموسيقى سيطر على مناحي هذه المسرحية الهزلية، بالإضافة إلى التزلف والتملق وكل أشكال النفاق الاجتماعي، من أجل الحصول على المال والمكانة.
من المعروف أن مسرحية «البورجوازي النبيل» للعبقري موليير واحدة من أشهر وأعظم مسرحياته، وقد وضعت على قدم المساواة مع «هاملت» شكسبير باعتبار هذه الأخيرة هي عماد المسرح الدرامي. يبدو أن موليير الملكي المتعاطف مع نبالة السيف والرداء قد أخطأ في تقديراته. فهذه الطبقة البورجوازية التجارية الصاعدة التي أراد أن يسخر منها هو وملكه المفضل لويس الرابع عشر (الملك الشمس) ستكون مستقبلا هي حفارة قبر الملك وحاشيته النبيلة في بدايات نهاية القرن الثامن عشر في فرنسا، حيث ستنتصر طبقة السيد جوردان وأمثاله على أصحاب القيم الإقطاعية القديمة، وبالتالي القضاء على هذا التنظيم الإقطاعي للعمل الاجتماعي الذي كان يرتكز على طاعة العصا. والجوع…

خبار عاجل

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق