حين جسد الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز شخصية الطاغية في رواياته، استمد كثيرا من قسماتها من تاريخ أمريكا اللاتينية التي عانت من الهيمنة الإسبانية، حيث حكم الطغاة العسكريون الذين دمروا البلاد وأشاعوا الفساد والتخلف. فالجنرال الطاغية أنطونيو دي سانتانا ديكتاتورالمكسيك، أقام جنازة هائلة لساقه التي فقدها، كما أن الجنرال غابرييل غارسيا مورينيو الذي حكم الإكوادور لمدة ستة عشر عاما كديكتاتور كلي الوجود ألبس جثمانه الزي العسكري وغطي بالنياشين والأوسمة، وتم السهر عليه في وضعية الجلوس فوق كرسي الرئاسة. أما الجنرال ماكسميليانو هيرنانديز مارثينيز طاغية السلفادور فقد ذبح بدوره ثلاثين ألف فلاح في مجزرة وحشية. والجدير بالذكر أنه قام باختراع بندول ساعة لاختبار وجود السم في طعامه.
إذن عايش ماركيز تصرفات لامعقولة عرف بها طغاة أمريكا اللاتينية، مردها تضخم الأنا والدوران الهستيري حول المجد الشخصي ونفي إنسانية الآخر (الشعب. الأصدقاء والأعوان) وقد لاحظ ماركيز حوادث تاريخية، لافتة للنظر في جمهوريات الموز فقد كان القتل السريع نصيب كل حاكم ديمقراطي مثل سلفادور الليندي، الذي طوقته الطغمة العسكرية الفاشية، ما سمي بعصابة الجنرالات الأربعة بقيادة الجنرال الدموي بينوشيه، حيث حاصروه وحيدا في قصر لامونيدا فسقط كأحد أبطال الإلياذة وهو يقاتل جيشا بأكمله. كما أن حادث طائرة مشبوهة، لا يزال بحاجة إلى تفسير، خطفت حياة الجنرال عمر طوريس رئيس بنما، هذا الجنرال الديمقراطي الذي حافظ على كرامة شعبه وانحاز إلى من في قاع المجتمع. لن يستغرب متلقي رواية «مئة عام من العزلة» حين يجد العقيد أوريليانو بوينديا بطل اثنتين وثلاثين انتفاضة مسلحة، قد رقي الى رتبة قائد عام للقوات الثورية، وامتدت سلطته على كل البلاد. فتبدو روعة هذه الشخصية في دقة رسمها بطريقة مذهلة، إذ نجده يحمل في أعماقه جملة صفات متناقضة، فهو شاعر وعسكري. متنبئ ودموي وقائد ذهاني. فقد بلغ هذا الطاغية أعلى درجات التوحش، حين قتل أنصاره ومؤيديه، بل همّ بقتل أعز أصدقائه، بهذا بدت السلطة روحا شريرة تجتاح روحه وجسده، فتعزله عن نبض الحياة الإنسانية وحرارتها، لذلك غلّف جليد السلطة قلبه.
نلاحظ أن شخصيته الطاغية لا تبدو وحدها مسؤولة عن وحشيتها، فقد أحاطت بها حاشية تعزز طغيانها، فقد باتت صورة عنها حتى أنها تتسلم زمام المبادرة في القتل والفساد كي ترضيها، فتبدو أكثر جرأة منها في الشر.
فقد استيقظ أوريليانو في الليلة التي أعلن فيها قائدا عاما للجيش مرتجفا طالبا دثارا (اجتاحه برد داخلي حتى العظام، يعذبه والشمس طالعة، منعه النوم عدة أشهر، حتى ائتلف معه وتعود عليه وأخذت نشوة السلطة تفسرها أحداث مرة. وبحث عن دواء للبرد فما وجد إلا إعدام الضابط الفتى الذي اقترح اغتيال اللواء فارغاس). نعايش في هذه الرواية الدمار الروحي الذي وصل إليه طغاة أمريكا اللاتينية، حتى باتوا يرون في الدم دواء منقذا لهم. فالسلطة سكنتهم كعفاريت ألف ليلة وليلة، وبذلك يتيح لنا هذا النص التغلغل في أعماق الطاغية المشوهة والسادية، التي ترى لذتها في تعذيب الآخرين، بل تجد خلاصها وموئلها في قتلهم، عندئذ يتبين لنا العطب والخلل النفسي الذي يعانيه الطاغية العسكري، بالإضافة إلى غياب القيم والمثل العليا في حياته، إذ يمارس القتل باسم الحرية، ويطبق كل ما هو نقيض للمبادئ التي حارب من أجلها، فنجد مثلا كما يذكر ماركيز في هذه الرواية، أن حزب المحافظين الذي يمثل الجناح الرجعي يقاتل تحت لواء حزب الأحرار الذي يمثل الحرية والتجدد.
من خلال الرواية نلاحظ أن شخصيته الطاغية لا تبدو وحدها مسؤولة عن وحشيتها، فقد أحاطت بها حاشية تعزز طغيانها، فقد باتت صورة عنها حتى أنها تتسلم زمام المبادرة في القتل والفساد كي ترضيها، فتبدو أكثر جرأة منها في الشر. المدهش هنا في الرواية أن الكاتب الكولومبي صور بدقة متناهية تحول الإنسان العادي إلى طاغية، فقد كان أوريليانو في البداية ضد الظلم الذي يمارسه حزب المحافظين، لكنه يجد نفسه يقع في متاهاتهم فقد أغوته السلطة المفاجئة حتى أفقدته رشده وتوازنه، فصار يغضب من سكان القرية المغلوبة المحبة له، متذكرا نفاقهم فقد سبق لهم أن أحبو أعداءه قبل أن يأتي إليهم.
إن أخطر ما يمثله الطغاة هو تأثر الأجيال بهم، فقد يرون فيه المثل الأعلى لهم إذ حاول الفتيان تقمص شخصية أوريليانو المستبد المجنون، حتى باتوا ينظرون بعينيه ويتكلمون بصوته ويقلدونه في كل شيء، حتى في مشيته، بل يردون التحية بطريقته الحذرة نفسها. فأحس بأنه موزع بينهم عبر نسخ عدة، كل ذلك لم ينف عنه إحساس العزلة، فطوقته الوحدة أكثر من أي وقت مضى ولإحساسه أيضا بأن قانون الزمن لن يعفي أحدا من النهاية الحتمية التي تنتظر كل إنسان، حاكما أو محكوما.
كأي طاغية كان الديكتاتور أوريليانو لا يطيق من يختلف معه في الرأي، فتعود صورته إلى نمطيتها، حيث سيتعرض للنقض على يد أحد المخلصين له، فحين قال له صديقه المخلص العقيد ماركيز «انتبه إلى قلبك يا أوريليانو أنت تتعفن بدون أن تعلم» يستفز فيودعه في السجن ويحكم عليه بالإعدام، ناسفا تاريخا طويلا من الصداقة والود، عندئد تتدخل أمه أورسولا وتنقذه. وكذلك أيضا حكم على صديقه اللواء مونكادا بالإعدام، الذي يكره الحرب وتجرأ وواجهه بالنقد. ومن بين أسباب انهياره الخلقي وتحوله إلى طاغيه، هو بيئته العسكرية، فقد عاشر العسكريين حينا من الدهر رغم كراهيته لهم. وحين وضعت الحرب أوزارها تطبع بطباعهم وصاروا يجسدون مثله الأعلى. وقد ارتفعت نبرة نقد مونكادا له حيث حذره أنه لو استمر في غيه وطغيانه فلن يصبح أعتى الطغاة فقط، بل سينتهي به الأمر إلى أن يدوس أقدس القيم المتمثلة بأمه أورسولا، فيعدمها كي يريح ضميره. إن كل التصرفات الهمجية هي صفات مكتسبة من بيئته العسكرية الفاسدة. فقد اكتشف عقم القضية التي خاض الحروب من أجلها، إذ كان يقاتل بدافع الغرور والمجد الشخصي لا من أجل قضية سامية أو مبدأ يؤمن به. كما فعل صديقه العقيد ماركيز في دفاعه عن حزب الأحرار وإخلاصه له. أما أورسولا أمه فقد ردت قسوته إلى افتقاده الحب، فهو لم يحب أحدا في حياته لأنه عاجز عن فعل ذلك. بهذا كانت قضيته تمجيد ذاته فلم يعرف سوى التضخم والغرور. يلتفت الكاتب ماركيز إلى البعد الإنساني الذي نظن أن الطاغية اوريليانو بوينديا غريب عنه فيكتشف القارئ أن العقيد أوريليانو يشكل نقيضا لصورة الطاغية التقليدي.
حاول ماركيز رسم صورة الزعيم في رواية «مئة عام من العزلة» عبر جيلين، جيل الأب أوريليانو وابنه أركاديو الذي بدت صورته أكثر استبدادا من أبيه ليعزز في مخيلة المتلقي الصورة الأكثر قبحا وبشاعة للطغاة.
إذ كان يمتاز بحساسية الشعراء، كتب دواوين عدة. وفي اللحظة التي حكم عليه فيها بالإعدام يقرر إعدام أشعاره معه. فقد أدرك حجم التناقض بين حياته العسكرية وحياته الشعرية، وإنه عاش عزلة نفسية حتى إنه لم ينسجم مع ذاته لهذا قرر التخلص من أي أثر يدل عليه. منح ماركيز الطاغية سمات استثنائية غرائبية، إذ بكى في بطن أمه وجاء إلى الدنيا مفتوح العينين وفي الثالثة من عمره يتنبئ لأمه بسقوط القدر. وحين يعود من القتال يخبر أمه أورسولا بتفاصيل حدثت للأسرة أثناء غيابه، فيتنبأ بساعة موته ومحاولات اغتياله، وقد أنقذته إحدى النبؤات من الإعدام، فحين سئل عن طلبه الأخير أعرب عن رغبته في أن يعدم في قريته (ماكوندو) حيث يتم إنقاده أمام منصة الإعدام على يد أخيه جوزيه بفضل تنبؤ ربيكا بمكان الإعدام. وعلى الرغم من أن حياته العسكرية اتسمت بالوحشية، فإن التجارب القاسية واقترابه من الموت، مآسي الحروب التي خاض غمارها الإحساس بالعبثية وموهبته الشعرية، منحت شخصيته بعدا إنسانيا، لهذا كله لن يستغرب أن يخالف المألوف فيرفض بعض المظاهر التي يحتفي بها الطغاة عادة، حتى أنه لم يسمح بأخذ صورة له، ويرفض الاستمرار في الحرب الأهلية بعد أن آمن بعبثيتها كما لم يقبل راتبا تقاعديا مدى الحياة من الدولة، فعاش أيام شيخوخته من دخل السمكات الذهبية الصغيرة التي كان يضعها في مشغله، التي باتت رمزا لشخصيته. نجد أيضا بعض أقرباء الطاغية يستغلون هذه القرابة مثل أخيه جوزيه الذي استولى على أراضي الفلاحين ظلما وعدوانا مزورا سندات الملكية. وحين اضطر الديكتاتور أوريليانو للرحيل عن ماكوندو وتركه ابنه أركاديو ليحكمها، يتبدى لنا طاغية من نوع آخر أكثر جنونا واستبدادا من أبيه، ربما بسبب فارق السن والتجربة، إذ أظهر منذ توليه السلطة ميلا عارما للمراسيم التي لم يأبه لها والده، حتى أنه فرض على كل رجل ربط ساعده بشريط أحمر (شعار الأحرار) ما عزز مظاهر استبداد الرأي في حزبه، حتى أنه لجأ إلى فرض شعاره بقوة السلاح. عمل كدأب أبيه على قتل كل المخالفين له في الرأي أو حبسهم، حيث حبس رجل الدين الأب نيكيانور في البيت الكهنوتي ومنعه من خدمة الصلاة وقرع الأجراس إلا إذا كانت الغاية منها الاحتفال بانتصارات حزب الأحرار، وقد وصل به الأمر إلى جر موسكوتيه حمو أوريليانو إلى منصة الإعدام بصفته ممثلا للمحافظين. فأنقدنه أورسولا حامية القيم، وضربت الطاغية بالسوط فتصاغر وانطوى على نفسه. تتسع صورة الطاغية الجديد كقائد عام للقوات المسلحة في ماكوندو، فيصدر أوامر استبدادية بأن تطلى كل البيوت بالأزرق بمناسبة عيد الاستقلال. لقد حاول ماركيز رسم صورة الزعيم في رواية «مئة عام من العزلة» عبر جيلين، جيل الأب أوريليانو وابنه أركاديو الذي بدت صورته أكثر استبدادا من أبيه ليعزز في مخيلة المتلقي الصورة الأكثر قبحا وبشاعة للطغاة.