سمر رمضاني: في ذكرى رحيل النورس المهاجر الكاتب النمساوي ستيفن زفايغ الذي أنهى حياته منتحرا احتجاجا على عالم يتهاوى تحت جزمات النازيين .

شأنكم19 أبريل 2022آخر تحديث : منذ 3 سنوات
شأنكم
أخبارثقافة وفن
سمر رمضاني: في ذكرى رحيل النورس المهاجر الكاتب النمساوي ستيفن زفايغ الذي أنهى حياته منتحرا احتجاجا على عالم يتهاوى تحت جزمات النازيين .

بقلم ناصر الحرشي……….
■ لماذا لم يستطيع ستيفان زفايغ (28 نوفمبر/تشرين  1881-22 فبراير/شباط 1942) إعادة بناء حياته من جديد في منفاه الاختياري في إنكلترا أو البرازيل؟ وما السر الذي جعله غير قادر على احتمال الإقامة خارج بلده؟ هــــذا ما حاول كاتب سيرته جورج بروشنيك الإجابة عنه في كتابه «المنفى المستحيل» الذي حاول فيه استنادا إلى مذكراته ورسائله توضيح الدوافع الكامنة وراء قراره الانتحار، في الوقت الذي كان لا يزال يتمتع فيه بشعبية مميزه واستثنائية.
عرفت المكتبة القومية اليهودية في شهر نوفمبر لسنة 2017 لأول مرة مجموعة من الرسائل لستيفان زفايغ، كان قد كتبها في سنوات 1921 و1933 ميلادية إلى أحد القراء الألمان في مدينة لينينغراد، وكانت قد نشرت المكتبة نفسها قبل خمس سنوات من الآن الكثير من الوثائق النادرة على موقعها الإلكتروني بشأنه وذلك بمناسبة مرور سبعين سنة على الانتحار الأليم الذي هز آنذاك الساحة الفكرية والثقافية الغربية. لقيت الوثائق التي عرضت إقبالا كبيرا من طرف الزوار الذين حرصوا على الاطلاع عليها. وبالخصوص الرسالة التي خطها في يومه الأخير قبيل انتحاره، رفقة زوجته في مدينة بتروليوس البرازيلية ليلة 22 فبراير عام 1942، التي يشكر فيها حكومة البرازيل وشعبها على استضافته، ويُعلم فيها أصدقاءه بقرار وضع حد لحياته. فقد كتب (قبل مفارقتي الحياة بمحض إرادتي الحرة، وفي كامل وعيي، أنا مرغم على الوفاء بالتزام أخير، أن أوجه خالص شكري الصادر من القلب إلى البرازيل هذا البلد الرائع الذي منحني ومنح أعمالي راحة تكشف عن بالغ الود وكرم الضيافة. لقد تعاظم حبي للبلاد يوما بعد يوم، ولم أكن لأوثر بناء حياة جديدة إلا فيها. والآن بعد أن توارى عالمي الفني عني وهدم وطني الروحي أوروبا نفسه بنفسه. يحتاج المرء بعد أن ناهز الستين من العمر إلى طاقات استثنائية كي يبدأ بداية جديدة من الصفر. وما لدي من طاقات استنزفتها مني أعوام التيه المديدة. لذلك اعتقد انه من الأفضل إن أضع حدا لحياتي في هذا الوقت المناسب وأنا مرفوع الرأس. أحب كل أصدقائي راجيا أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد ليل مظلم طويل وها أنذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تماما، لذلك أرحل قبلهم).
انتشرت في اليوم الموالي لانتحاره رسالته كالنار وسط الهشيم، إذ أذاعتها مختلف وسائل الإعلام السمعية والمكتوبة، وقد نظمت له الحكومة البرازيلية جنازة رسمية حضرها الجنرال جيتوليو فارغاس رئيس الجمهورية البرازيلية آنذاك، ومجموعة كبيرة من المثقفين والأدباء. ولم يمر الحدث في صمت إذ خلّف الخبر صدمة كبيرة، وبدا قرار الانتحار غير مفهوم تماما، بل إنه أسفر عن موجة ردود فعل تضاربت بين التعاطف والاستنكار. صديقه الحميم توماس مان لم يخفِ غضبه مما اعتبره عملا جبانا، وكتب إلى أحد أصدقائه قائلا (لم يكن ينبغي له أن يمنح هذه الفرصة للنازيين).
يعد ستيفان زفايغ واحدا من الكتاب الأكثر شهرة بين أبناء جيله، في حين كان فرويد والتحليل النفسي يبهران الناس، كان زفايغ يرسم ملامح أعماق النفس البشرية، ويكشف عن أدق خفاياها وأعنف انفعالاتها كالحب والكراهية والخوف والشغف. وقد ترجمت أعماله إلى ما يقرب مــــــن خمسين لغة.
واعتبر من الكتاب النمساويين الأكثر تأثيرا، حتى لقد أطلق عليه اسم دوستويفسكي النمساوي. أشهر أعماله «السر الحارق» (1911) «التباس الأحاسيس» (1927) «الخوف» (1920) «أموك» (1922) «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» (1927) «ماري أنطوانيت» (1932) «الشفقة الخطيرة» (1938) «لاعب الشطرنج» (1942). وأغلبها روايات مترجمة إلى عدة لغات.

في حين كان فرويد والتحليل النفسي يبهران الناس، كان زفايغ يرسم ملامح أعماق النفس البشرية، ويكشف عن أدق خفاياها وأعنف انفعالاتها كالحب والكراهية والخوف والشغف. وقد ترجمت أعماله إلى ما يقرب مــــــن خمسين لغة.

من المعلوم أن ستيفان زفايغ دون مذكرات من سيرته الذاتية بعنوان «عالم الأمس» «مذكرات أوروبي» في لحظة حرجة من حياته الشخصية. ففي مطلع الأربعينيات من القرن الماضي كانت الحرب العالمية الثانية في أوج احتدامها، في ما كان هو في البرازيل يخطط لوضع حد لحياته. وبدا وكأن كتابه هذا كان البيان الختامي الأخير. ففيه إشارات قوية عن مدى الرعب الذي لازمه بعد وصول هتلر إلى السلطة، وهو الرعب الذي تفاقم حين غادر النمسا مكرها. إن ستيفان زفايغ نمساوي قح من أصول يهودية اشتهر ككاتب سير وراو بارع وكان من دعاة السلام ونموذجا للأوروبي المسالم، ولذلك كان جرحه عميقا حينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وعندما أصبحت بلاده ذات توجه نازي، غادر إثر الهجمات المتكررة على منزله من طرف القوميين الشوفينيين الجرمان، لكنه أحس بالفراغ القاتل في المنفى، ولم يذق طعم الراحة في أي مكان، بل شعر بالإهانة. فحيثما حل وارتحل شعر بالوحدة والغربة القاسية، إنه ليس سوى ضيف في أحسن الأحوال. فأوروبا التي أحبها أقدمت في نظره على الانتحار حين انقسمت إلى معسكرين يحارب فيها الأخ أخاه. لقد شهد على عصر الأيديولوجيات المتطاحنة الفاشية في إيطاليا، والاشتراكية القومية النازية في ألمانيا، والبلشفية في روسيا. وفوق كل ذلك التعصب القومي المقيت الذي سماه الوباء الأكبر الذي سمم الثقافة الأوروبية. لقد كان شاهدا مخذولا على انزلاق لا يصدق للإنسانية نحو البربرية المعادية للسلم والأمن. كتب أن يسمع عن معسكرات الاعتقال وعن سجون الاضطهاد وعن الغارات الجوية على مدن عاجزة كل العجز عن الدفاع عن نفسها. لقد اضطر أن يكتب مذكراته بمرارة في بلد أجنبي، والحرب قائمة اعتمادا على ذاكرته، وفيها يحن إلى عصر الأمن الذهبي عصر ما قبل الحرب العالمية الأولى. كان زفايغ يكره الحرب ويمقتها، إذ اعتبرها قرارا عبثيا، وقد نشر عقب الحرب العالمية الأولى مسرحيته عن مأساة إرميا في عيد الفصح، كتبها والسخط على الزمن يستحوذ عليه.
بين سنوات 1924 و 1933 نعمت أوروبا بالسلام النسبي، حيث تدارك الناس ما سرقته منهم أوقات الحرب العصيبة، إلى أن أوقع الفوضى في العالم رجل واحد، إنه الفوهرر الذي أحدث في العالم من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور. لقد طفا هتلر على السطح بسبب موجة الاستياء المتصاعدة التي سرعان ما رفعته إلى الأعلى. ولم يفوت زفايغ الفرصة فقد ألف سنة 1936 كتابه «كاستيلو ضد كالفن» أو ضمير ضد العنف واختار العودة لحقبة الإصلاح الديني لإدانة النازية. فقد وضع الحاضر الخاضع للفاشية على خشبة مسرح التاريخ من خلال الرجوع إلى مرحلة سابقه لإدانة طغيان زمانه. فلم يجد أفضل من جدالات العصر الحديث حول الحرية الدينية التي انطلقت في أواسط العصر الحديث من سويسرا، بمناسبة محاكمة الطبيب الإسباني ميشال سرفيه وإعدامه في جنيف بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1553 ميلادية. حيث تحول قسيس كاتدرائية سان بيار في جنيف إلى راديكالي قاس ومرعب، فلا رأي إلا رأيه، وكل الأصوات غدت صدى لصوته، فكالفان كان يشبه قطعة من الصخر، حيت أرسى دستور أرثذوكسيته الصارمة في كتابه «الأسس المسيحية». وتم حظر كتابات زفايغ في ألمانيا بعد شهر من استيلاء هتلر على السلطة، ثم حرقها إلى جانب كتابات أخرى على آلة التشهير الخشبية، كما هي عادة الألمان في العصر الوسيط. وذلك بمباركة وزير الدعاية غوبلز وسط ألعاب نارية احتفالية مصحوبة بأغان تؤجج المشاعر القومية. وتم توجيه تحذير شديد اللهجة للمكتبيين من مغبة عرض أو بيع رواياته. كما منعت أيضا كتابات توماس مان، سيغموند فرويد، ألبرت إينشتاين، وأد موند هوسرل. مع ذلك فقد أثار عرض فيلم في قاعات ألمانيا جدلا كبيرا لأنه كان مستوحى من «السر الحارق» أشهر روايات زفايغ، وقد تم منع العروض من قبل شرطة الجستابو. حين استقر زفايغ في لندن انسحب من المشاركات العامة، ولم ينشر أي مقالة سياسية في إنكلترا، ولم يتحدث في أي إذاعة. كانت حياته منعزلة في شقة مغمورة لاستحواذ شعور بأنه أجنبي عليه. فإنكلترا بالنسبة له ليست سوى مقام لم تربطه به أي عاطفة، ولذا تابع منها بأسى شديد كتابه «سيرة انطوانيت» زوجة لويس السادس عشر التي أعدمت إلى جانبه بالمقصلة، ثم جاءته فكرة كتابة عن ماري ستيوارت المتهمة بقتل زوجها، وبعدها استحوذ عليه الهوس لإحساسه بأن وطنه الأم النمسا ضاع منه إلى الأبد، ومما عمق مأساته أن أعماله التي أنجزها في إنكلترا بقيت مجهولة في ألمانيا والنمسا. كما أن القلق على مصير أوروبا بدأ يضغط على أعصابه. أصبح ستيفان زفايغ مهاجرا ولاجئا بلا جواز سفر. ومن منظور رؤيته اليائسة فقد عد رجلا غير محترم شخصا خارجا عن القانون حتى أنه شبه نفسه بالجسد الذي لا روح فيه. ولعل هذا اليأس هو الذي سيولد فيه واحدا من أعظم روائعه ونقصد رواية «لاعب الشطرنج» التي نشرت بعد وفاته والتي ينذر فيها بسقوطه. لذلك هرب من الحياة بشكل نهائي في 22 فبراير/شباط 1942 . لم يتحمل الرجل مدافع هتلر وهي تدك أوروبا دكا، حيث ابتلع رفقة زوجته قارورة من الحبوب القاتلة وسقط، كما يليق بالصقور أن تسقط ساعة الضيق ثم هجعته الأبدية. ألا يشبه زفايغ مهيار الذي تحدث عنه أدونيس في قصيدته «أغاني مهيار الدمشقي» حيث قال الشاعر: مهيار وجه خانه عاشقوه.

 

خبار عاجل

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق