برقيات البحث بين ضرورة تقييد الحرية وضمان الأمن القضائي:

شأنكم تيفي منكم و اليكم بكل ما هو مفيد17 سبتمبر 2025Last Update : 21 ساعة ago
شأنكم تيفي منكم و اليكم بكل ما هو مفيد
رأي خاص
برقيات البحث بين ضرورة تقييد الحرية وضمان الأمن القضائي:

بقلم : عالي البريكي

قراءة في مذكرة رئاسة النيابة العامة
في خطوة وُصفت بالتحول النوعي في تدبير السياسة الجنائية بالمغرب، أصدر الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، السيد هشام بلاوي، دورية موجهة إلى الوكلاء العامين ووكلاء الملك، تروم ضبط آلية إصدار برقيات البحث ومراجعتها بشكل دوري، حمايةً لحرية الأفراد من جهة، وضمانًا للأمن القضائي للضحايا والمجتمع من جهة ثانية.
هذه المذكرة لم تأتِ من فراغ، بل تندرج في سياق دستوري وقانوني يكرّس حق التشكي وحماية الحقوق والحريات، ويُلزم السلطة القضائية بكافة مكوناتها بالسهر على صون الأمن القضائي وضمان عدم الإفلات من العقاب. غير أن الإشكال الجوهري الذي طرحته هذه الدورية يكمن في كيفية تحقيق التوازن بين حماية الحرية الفردية كحق دستوري أصيل، وبين ضرورة استعمال برقيات البحث كأداة ناجعة لتطويق الجريمة وملاحقة المشتبه فيهم الفارين من العدالة.
#برقية البحث: إجراء استثنائي يمس الحرية
تؤكد رئاسة النيابة العامة أن برقية البحث تُعتبر بطبيعتها إجراءً استثنائيًا، لأنها تعمم على مجموع التراب الوطني وتبقى سارية المفعول إلى حين ضبط الشخص المعني، وهو ما يجعل الفرد مهددًا في حريته الشخصية والعائلية والمهنية بشكل مستمر. لذلك، فالتعاطي مع هذه الآلية يجب أن يظل محصورًا في الحالات التي يقتضيها القانون، وبضوابط صارمة تمنع الانزلاق نحو المساس غير المشروع بحرية الأشخاص.
فبرقية البحث ليست أداة عادية في يد الضابطة القضائية أو النيابة العامة، بل هي إجراء مقيد للحرية يجب أن يستند إلى وسائل إثبات جدية تفيد بارتكاب الفعل الجرمي، وأن يخضع للمراجعة والتدقيق المستمر.
#المذكرة كآلية لحماية الحقوق والحريات
المذكرة التي وقعها هشام بلاوي بصمت على أول قرار يعيد ترتيب علاقة النيابة العامة بهذه الآلية، حيث دعت إلى:
1. عدم إصدار برقيات البحث إلا عند الضرورة القصوى.
2. المراجعة الدورية للبرقيات الصادرة للتحقق من استمرار موجباتها.
3. إلغاء البرقيات المتقادمة أو غير المبررة تلقائيًا.
4. ضبط لوائح الأشخاص المبحوث عنهم وتحيينها بشكل دوري.
5. التنسيق بين النيابة العامة والشرطة القضائية لضمان التطبيق السليم.
كما شددت الدورية على أن اللجوء إلى برقيات البحث ينبغي أن يتم بموجب تعليمات كتابية صادرة عن النيابة العامة، مع إمكانية التحرير الشفوي فقط في حالات الاستعجال أو التلبس، وهو ما يكرس مبدأ الشرعية القانونية ويُبعد عن أي استعمال عشوائي.
#المعطيات الرقمية: مؤشرات إصلاحية
أبرزت رئاسة النيابة العامة أن الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة أسفرت عن إلغاء أكثر من 153,461 برقية بحث خلال الفترة الممتدة بين 2021 و2023، منها 42,234 برقية مرتبطة بملفات الإكراه البدني. هذه الأرقام تكشف حجم الاختلالات السابقة في تدبير هذه الآلية، وتعكس في الآن ذاته الإرادة المؤسسية لتقويم الوضع.
هذا التوجه يجد سنده في دوريات سابقة (2018، 2019، 2021، 2022) كلها أكدت على أن برقية البحث ليست مجرد ورقة إجرائية، بل مسطرة مقيدة للحرية، تستدعي أكبر قدر من الحيطة والتوازن بين حماية المجتمع وصون حقوق الأفراد.
#جدلية الأمن القضائي والحرية الفردية
يثير النقاش حول برقيات البحث جدلية عميقة بين مقتضيات الأمن القضائي وحقوق الضحايا من جهة، وضمان الحريات الدستورية للأفراد من جهة أخرى. فغياب تفعيل برقية البحث في مواجهة المشتبه فيهم الفارين قد يُفقد الضحايا الثقة في نجاعة أجهزة البحث والتحري، بل وقد يشجع على تقوية شوكة الجريمة. في المقابل، الإفراط في إصدارها وتحويلها إلى أداة اعتيادية قد يؤدي إلى انتهاك مبدأ الحرية الفردية، ويجعل الأشخاص عرضة لإيقاف متكرر رغم انتفاء موجبات ذلك.
هنا تتجلى أهمية الدورية الجديدة التي وضعت معايير دقيقة للتوفيق بين هذين الاعتبارين، في محاولة لرد الاعتبار لدولة القانون والمؤسسات، وتجنب انزلاق برقية البحث إلى وسيلة غير مشروعة للإفلات من العقاب أو التعسف في تقييد الحرية.
#نحو تجويد الأبحاث الجنائية
ربطت المذكرة بين حسن تدبير برقيات البحث وضرورة تجويد الأبحاث الجنائية، حيث أكدت على استعمالها فقط في الحالات التي تتوفر فيها وسائل إثبات كافية، وعلى أن يتم إلغاؤها تلقائيًا بمجرد تقديم الشخص أمام النيابة العامة أو إحالته على قضاء التحقيق أو الحكم. هذا التوجه يجعل من آلية برقية البحث أداة مكمّلة لمسار العدالة، وليس بديلا عن التحقيق أو المتابعة.
#مأسسة الاستثناء وضمان دولة الحق
يمكن القول إن مذكرة رئاسة النيابة العامة بقيادة هشام بلاوي تشكل خطوة متقدمة في مسار تكريس دولة الحق والقانون. فهي تؤسس لتدبير رشيد لآلية خطيرة تمس جوهر الحرية الفردية، وفي الوقت ذاته تضمن عدم ترك فراغ قد يستغله المجرمون للإفلات من العدالة.
إن نجاح هذه المقاربة يظل رهينا بمدى التزام الوكلاء العامين ووكلاء الملك بتفعيل التعليمات الواردة، ومواصلة عملية التحيين والمراجعة الدورية، مع توفير آليات الرقابة والتتبع لضمان ألا تتحول برقية البحث من وسيلة قانونية استثنائية إلى سيف مسلط على رقاب الأفراد.
وبذلك، يتضح أن الرهان الأكبر يكمن في مأسسة الاستثناء وضمان أن تظل برقية البحث أداة مشروعة في خدمة العدالة، لا وسيلة للفوضى أو الإفلات من العقاب، وهو ما يشكل في جوهره انتصارًا للحقوق الدستورية ولأمن المجتمع على حد سواء.

خبار عاجل

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...لمعرفة المزيد

موافق