
” يقول بروفيسور التربية النفسية و التكنولوجية بجامعة ألبرتا الكندية Jason Harley :
‘كون البعض وقحا على النت لا يجعلهم مسؤولين عن مشاركاتهم، و هذا ما يؤدي غالبا لغياب نقاش بناء و صحي. فمكافحة النار بالنار لا تغني النقاش. بل تقتله!’
مقولة تصف جانبا متفشيا من ‘السيبة’ الطاغية على طبيعة التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الأخيرة التي عمقت بئر الانحطاط الاخلاقي و ساوت بين اكتاف العلم و الاختصاص و بين اكتاف الجهل المرصع بالدغمائية، بين بروتوكلات الأدب و اللباقة و بين غوغائية الرعاع. حتى أسطورة صمت الكسول، و توليه يوم الزحف التعلمي أثناء اختبارات المعارف لم تعد صحيحة! فالكل الآن يدلي بدلوه جاحظ العينين و دون رفع يده في قالب فوضوي اختلطت فيه المقامات و المستويات!
هذه الإشكالية جعلتني أطرح سؤالا عن ماهية السبب الذي ينزع الوازع الأخلاقي لفئة مهمة من مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي أثناء تواصلهم او تعليقهم على منشورات الآخرين.
للإجابة على هذا السؤال، سأقسم هذا المقال إلى ثلاثة محاور رئيسية. المحور الأول سأتطرق فيه لماهية وسائل التواصل الاجتماعي و طبيعة التواصل من خلالها. الشطر الثاني عن الأخلاق و تجلياتها في حياتنا اليومية، ثم اخيرا عن طبيعة ‘الآخر’ من المنظور الرقمي.
يحيلنا مصطلح ‘وسائل التواصل الاجتماعي’ على مجموعة المنصات و المنتديات الرقمية التي تتيح التواصل بين الأفراد قصد التسلية، التفاعل، التعارف، تبادل المعلومات، التأثير على الآخرين أو متابعة المؤثرين الإجتماعيين… حيث يمكن استعمال الكلمات، الصور، الفيديوهات، الوثائق الرقمية و مجموعة من الوسائط المتعددة لتحقيق الأهداف السالف ذكرها. هذا النسق الجديد للتواصل في عصرنا الحالي خلق مجالا ديموقراطيا للإدلاء بالرأي، و اتاح كذلك إمكانية التعقيب على كل شيء و في كل الميادين سواء بتخصص أو بدونه. كما اعطى الفرصة للنقاش و للردود بكل حرية، و هنا مربط الفرس!! فكل وضعية حوار او نقاش تقتضي طرفين على الأقل، موضوع الحوار و قناة التحاور. هذه الأخيرة تعني الوسيط المستعمل لربط طرفي الحوار و لنقل الرسائل او الكلام بينهما. فهناك اختلاف كبير بين مايستحضره طرفا الحوار في وضعية حوار حقيقية من عوامل تؤطر التفاعل و التقدير المتبادل بينهما، و بين غياب هذه العوامل في وضعية تواصل افتراضي. سأعود بالتفصيل لهذه النقطة في المحور الثالث.
نمر الآن للتعريف بمفهوم الأخلاق كونها بعدا مهما في هذه المعادلة. و للأمانة فمفهوم الأخلاق يعد بعدا معقدا نوعا ما كونه شعبة فلسفية محضة أسالت مداد أعتى الفلاسفة حول جوهرها. لذلك سأكتفي هنا بتعريف بسيط و عام له صلة باشكالية المقال:
“يمكن تعريف الأخلاق فلسفياً بأنها مجموعة من القواعد والمبادئ الأخلاقية التي تتعلق بنظام سلوك الأفراد أو المجموعة، والتي تهتم بمعيار السلوك الصالح للفرد وبالتالي للمجتمع على حد سواء.”
هذا التعريف يحيلنا بصورة او بأخرى إلى نسبية الأخلاق خصوصا فيما يتعلق بطبيعة معيار السلوك الصالح! فهذا الأخير يختلف من مجتمع لآخر، من عقيدة لأخرى و من ثقافة لأخرى! وهذا الامر وارد بشكل جلي في النقاشات و التعليقات. فأطراف الحوار ينطلقون من منطلقات أخلاقية حسب تأويلهم، و انتمائهم. وهذا يؤدي احيانا إلى استعمال ردود قاسية او إلى التهجم على المخالف الرابض أمام شاشة حاسوبه او هاتفه في الجهة المقابلة دون أدنى تفكير. بل و يفسر هذا السلوك احيانا كونه نابعا من منطلق أخلاقي مرتبط بالثقافة المكتسبة لصاحبه. كمثل الذي يسب عاهرة مثلا من منطلق الدفاع عن شرف المجتمع! أو الذي يصنف الأساتذة في ميزان الفضيلة حسب مقدار أقطار غض أبصارهم عن الغش في الامتحانات!! فكيف نميز إذن الفعل الاخلاقي من غيره، و كيف نحدد السلوك الصالح؟
الأمر الثاني بخصوص محور الأخلاق مرتبط ارتباطا وثيقا بالواقع الليبرالي و الرأسمالي الذي نعيش فيه حاليا. فالتفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي عبارة عن أرقام خالية من أي معنى أخلاقي. فسواء شتمت او مدحت، سيجرد تفاعلك حتما من المعنى و سيترجم إلى رقم يرقى بحساب صاحب الصفحة إلى درجة رقمية تخول له فيما بعد الحصول على مقابل مادي، أو إنشاء وسط نشيط يستغل في الجانب الإشهاري. و بما ان المنافسة و الصراع هما من أسس النظامين الليبرالي و الرأسمالي فغالبا ما يتعمد البعض وضع منشورات مستفزة لاستمالة التفاعلات ذات الطبع القدحي كونها تؤجج الصراع و المنافسة، و تطيل سلسلة التفاعل.
المحور الثالث المتعلق بطبيعة و تمظهر الآخر الرقمي و الذي تلعب فيه نقطة ‘قناة التحاور’ (او الوسيلة) عاملا أساسيا في تفشي ظاهرة العنف و الشتم في التعليقات و في الحوارات. فوسائل التواصل الاجتماعي تجعل الفرد يرد على شخصية افتراضية او رجل قش تنزع عنه سمة التقدير و الاحترام، و تعلق عليه كل الصور النمطية المتعلقة بفئة معينة، ليصبح الشتم، التخوين، التنمر و كل ما ينافي أخلاقيات الحوار شيئا بديهيا و مستحقا للمتلقي. نفس الشيء يصدر احيانا من هذا الأخير ليؤول النقاش إلى ادنى و أسفل درجات التحضر، تاركا العنان لولادة عصبية و قطبية في التفكير لدى المتفاعلين في نفس النسق. و يمكن هنا اخذ ظاهرة التعصب الكروي كمثال حي. فكل مشجع لفريق معين يلقب بصفات جاهزة دنيئة و حيوانية مطلقة بعيدا عن حقيقة شخصيته. صفات نمطية موحدة لا تعترف بخصوصية الفرد و لا تقبل حتى درجات او مستويات لهذه الدناءة.
أخيرا اعود لمقولة البروفسور الكندي و التي استهليت بها هذا المقال لألقي الضوء مرة أخرى على عبارة مكافحة النار بالنار! و من خلالها أدعو القارئ لهذا المقال أن يستحضر بعد المسؤولية أثناء تفاعلاته و تعليقاته بخصوص الآخرين. أن يستحضر عقله عند كل منشور مستفز حيث غالبا ما يكون مقصودا لاستمالة التفاعل لا غير، و ان يتوخى الحذر كون ‘الآخر’ إنسان أيضا بمشاعر و بكرامة! فإن فات زمن السيبة و التمرد على أرض الواقع، فالسيبة الالكترونية بعثت لتلطخ الوجه البهي للحضارة. فرغم ظاهرها الحضاري المتمثل فالتقنيات الرقمية و في السرعة، إلا ان مساهمتها فعالة للغاية في الغوص بنا في أعماق مستنقعات التخلف و السيبة.
ع.الحنين برهي